بعد خمسين عاما من الاحتلال الكامل: مدينةُ القدسِ أمام منعطفٍ خطير


تم النشر 10 يونيه 2017


عدد المشاهدات: 1672

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


الواقع المقدسي ليس قدرًا، بل هو مُبرمج إسرائيليًّا، إذ منذ اللحظة الأولى لاحتلال الجزء الشرقي للمدينة في يونيو/حزيران 1967، حيث الحرب غير التقليدية، والمُتصاعدة ولو بشكل خافت ودون ضجيج كبير معظم الأحيان، والتي تشنها سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" ضد المواطنين المقدسيين أصحاب الوطن الأصليين داخل أحياء المدينة على وجه التحديد. حرب لا تُستخدم فيها الأسلحة التقليدية، إنما يُستخدم فيها سلاحان مزدوجان: أولهما عملية مصادر البيوت والضغط على الناس بوسائل مُختلفة، ومنها التطفيش..

في فورة ارتفاع منسوب التحدي "الإسرائيلي"، أقدمت الحكومة "الإسرائيلية" على عقد جلستها الأسبوعية نهاية أيار/مايو 2017 الجاري، بالقرب من ساحة البراق بالقدس القديمة المحتلة وذلك في الذكرى الخمسين للاحتلال الكامل للمدينة. فاجتماع الحكومة "الإسرائيلية" تم تحت الأرض قرب حائط البراق، يأتي بعد إعلان "إسرائيل" منذ فترة عن مشاريع ضخمة تحت ادعاء أنها مشاريع سياحية، منها تحت البلد ومنها فوق البلد، ومنها مخطط القطار الهوائي تجاه حائط البراق وجبل الزيتون، بالإضافة إلى مسار آخر لحدائق توراتية في جبل الزيتون مقابل المسجد الأقصى، وحتى محيط الأقصى في منطقة باب الأسباط سيكون حدائق يهودية، إضافة للتواصل مع منطقة سلوان. 

وحسب تصريحات أطلقتها وزير شؤون القدس في الحكومة زئيف أليكن بعد الاجتماع المشار إليه، فإن تشديد قبضة الأمن "الإسرائيلي" في القدس هو الضمان الأول لما أسماه "طابعها اليهودي"، لكنه أضاف للأمن عنصر تثقيف بعيد الأمد يتعلق بخطة لتوسيع تطبيق منهاج التعليم "الإسرائيلي" في المدارس العربية في القدس.

إن الأعمال التهويدية الاستيطانية الجارية في القدس ليست فقط تلك التي تمت وتتم فيما يُعرف بـ"الحوض المقدس" وهو البلدة القديمة والشيخ جراح، وإنما يُطول بيت حنينا وشعفاط والعيسوية وكفر عقب والنطاق المحيط وغيرها. والمخطط "الإسرائيلي" يهدف لإبعاد أكبر عددٍ من المواطنين المقدسيين، وهذا يتضمن عمليات الهدم الفعلي للبيوت، وإطلاق عشرات آلاف أوامر الهدم ومخططات لاستبعاد الناس خارج الجدار وإنهاء علاقتهم بالقدس، وهي معركة ديموغرافية تُطول كل مواطن مقدسي من أبناء المدينة الأصليين.

إن الاحتلال بنى خططه الاستيطانية التهويدية على ثلاثة أبعاد، أولها الحفريات والبناء حول المسجد الأقصى والبلدة القديمة وأوابدها التاريخية، فيما يتمثل البعد الثاني باستيطان وتهويد الأحياء العربية وتهجير سكّانها، والثالث في استيطان القرى المجاورة للقدس ومحيطها في إطار "متروبلين القدس الكبرى"، وهو ما يعني فرض حصار استيطاني على مدينة القدس بكاملها.

وعليه، باشرت سلطات الاحتلال، فور الاحتلال الكامل للجزء الشرقي للمدينة بفرض وقائع جديدة على الأرض، تمنع مستقبلًا الانسحاب من المدينة. فأولى الخطوات كانت هدم حي المغاربة المتاخم لحائط البراق، بزعم إتاحة المجال لليهود للصلاة في المكان، وترحيل 135 أسرة فلسطينية. وبعد أيام من احتلال البلدة القديمة، باشرت بلدية الاحتلال تنفيذ مشاريع استيطانية لتثبيت السيادة "الإسرائيلية"، إذ صادر الاحتلال (3345) دونما على تخوم الجزء الشرقي للمدينة لربطه بالجزء الغربي، وإسكان عشرة آلاف مستوطن يهودي. 

أي أن واقع الاستيطان والإفقار والهدم المجتمعي لم يِكُن عشوائيًا، بل إن حربًا مُعلنة على المدينة وأهلها منذ يونيو/حزيران 1967 لا تزال مُستمرة. فعمليات "الاستيطان الإسرائيلي" في القدس مُستمره، وتتوسع طرديًّا بشكل متزايد، حيث تحتوي مستوطنة 15 مستوطنة بالقدس من أصل 29 مستوطنة، أكثر من 400 ألف مستوطن هناك، يتم توطينهم في القدس.

وبعد سنوات طويلة من استمرار مشاريع التهويد الجارية داخل المدينة وعلى أسوارها وفي محيطها، يتم الآن طرح المخططات والإجراءات التهويدية التي تستهدف المناطق الشرقية من المدينة ومحيطها تحت عنوان "القدس 2050″، مترافقًا مع مشروع قانون "القدس الكبرى"، وهو القانون الذي قدمه عضو الكنيست (يهودا جليك) من حزب الليكود، وعضو الكنيست (بتسلائيل سيموترش) من حزب البيت اليهودي، حيث ينص "مشروع القانون" على ضم مستوطنات "إسرائيلية" تقع في المناطق المحتلة 1967 وتشمل مستوطنات "غوش عتصيون" ومستوطنة معاليه أدوميم". 

كما يشمل مشروع "القدس الكبرى" إقامة مجلس يرأسه رئيس بلدية القدس ويضم رؤوساء مجالس المستوطنات الواقعة في الضفة الغربية التي سيشملها المشروع، والمستوطنات التي ستضم "للقدس الكبرى" هي مستوطنات، بيتار عليت، معاليه أدوميم، جفعات زئيف، غوش عتصيون، إفرات، كفار أدوميم.

إن مدينة القدس، بجزءيها الغربي والشرقي، ومواطنيها الفلسطينيين أصحاب البلد الأصليين، تعاني وبعد خمسين عامًا على احتلالها الكامل، من أوضاع صعبة على كل المستويات، الخدمية والمعيشية، وهو ما جعل منها أفقر مدينة فلسطينية. فحتى المعطيات والإحصائيات "الإسرائيلية" تؤكد ذلك، حيث تجري عملية هدم حثيث للمجتمع الفلسطيني المقدسي من خلال التضييق عليه سياسيًا واقتصاديًا، في مسعى "إسرائيلي" لأن يكون المواطنون الفلسطينيون الأصليون أقلية في المدينة، وتعمل لذلك على دفعهم لمغادرة المدينة والتفكير بالهجرات الخارجية. فسياسات الاحتلال وضعت المقدسيين أمام خيارين من خلال التضييق الاقتصادي، إما الخروج من المدينة والانتقال إلى الضفة الغربية وحتى خارج فلسطين، وبذلك يخسرون إقامتهم في المدينة، أو التخلي عن هويتهم الوطنية، والاندماج والعيش الذليل على الهامش "الإسرائيلي"، وهما خياران أحلاهما مُرّ.

الواقع المقدسي ليس قدرًا، بل هو مُبرمج إسرائيليًّا، إذ منذ اللحظة الأولى لاحتلال الجزء الشرقي للمدينة في يونيو/حزيران 1967، حيث الحرب غير التقليدية، والمُتصاعدة ولو بشكل خافت ودون ضجيج كبير معظم الأحيان، والتي تشنها سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" ضد المواطنين المقدسيين أصحاب الوطن الأصليين داخل أحياء المدينة على وجه التحديد. 

حرب لا تُستخدم فيها الأسلحة التقليدية، إنما يُستخدم فيها سلاحان مزدوجان : أولهما عملية مصادر البيوت والضغط على الناس بوسائل مُختلفة، ومنها التطفيش والمضايقات اليومية، والتهديد بسحب الهويات المقدسية، وحتى الإغراء المالي، لبيع منازلهم لمجموعات يهودية تعمل، وتحت عناوين مختلفة على الانتشار داخل الأحياء الشرقية من المدينة لتهويدها من داخلها. وثانيهما استخدام السلاسل والزنازين وحملات الإعتقال ضد مواطنين مدنيين عُزّل، وأحيانًا القليل من الرصاص الحي والرصاص المطاطي، لكبح عمل مجموعات النشطاء السلميين من الشبان والشابات في دفاعهم عن القدس والأقصى.

ووفق المعطيات "الإسرائيلية" لعام 2015 على سبيل المثال، يُشكّل المواطنون العرب الفلسطينيون نحو (37%) من سكان المناطق التي تقع في نفوذ بلدية القدس الكبرى "الإسرائيلية" (الشرقية والغربية) والذي تضاعف عدة مرات، في حين تصل نسبة الفقر في أوساط فلسطينيي القدس إلى نحو (79%)، ونسبة البطالة تصل إلى (30%)، وهي تشمل مخيم شعفاط والبلدات الفلسطينية الصغيرة في محيط المدينة. أما نسبة اليهود المتزمتين (الحريديم) فتصل إلى (23%)، وتصل نسبة الفقر في أوساطهم إلى (50%)، وعمومًا الحريديم هم من الشرائح الأفقر في "إسرائيل". 

أما البقية من سكان المدينة، أي (40%) تقريبًا، فهم من المستوطنين الصهاينة من اليهود العلمانيين والمحافظين، وتصل نسبة الفقر لديهم إلى (27%.). وبحسب المعطيات الفلسطينية، تفوق نسبة الفقر في القدس مثيلتها في قطاع غزة المحاصر (تراوحت ما بين 40% إلى 65%)، ويقدر بأن 117 ألف طفل مقدسي يعيشون تحت خط الفقر من أصل (230) ألف مقدسي يعيشون تحت خط الفقر وفق المعايير "الإسرائيلية".

وعليه، تعيش المدينة المقدسة لحظات حاسمة من تاريخها، وقد باتَ سيف التهويد مُسلطًا عليها بشكل غير مسبوق، وهي تنتظر تحركًا إسلاميًّا وعربيًّا على كل المستويات من أجل إنقاذها والحفاظ على عروبتها وإسلاميتها ومسيحيتها، ودعم المؤسسات الوطنية القائمة فيها، ودعم صمود مواطنيها الباقين على أرضها بالرغم من كل سياسات الاحتلال الهادفة لدفعهم للخروج من مدينتهم.

إن واقع القدس الراهن، في ظل استمرار زحف اخطبوط التهويد والاستيطان، يجب أن يُقابل الآن قبل الغد باستراتيجية عربية وإسلامية حقيقية، ترى في القدس مدينة مُقدسة عربية فلسطينية، وأن أهلها يُشكلون جزءًا من الشعب الفلسطيني، والتوقف عن تركهم في مواجهة مصيرهم وحدهم.

المصدر: صحيفة الوطن العمانية

 




- انشر الخبر -