ضعف الهمة


تم النشر 10 فبراير 2017


عدد المشاهدات: 1899

أضيف بواسطة : عبدالعال محمد


الحمد لله وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:

إن الإسلام دين العزة والكرامة، والسموِّ والرفعة، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ الله -عز وجل- كريم يحب الكرماء، ويحب معالي الأمور، ويكره سفسافَها"( رواه الحاكم والطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (1890). وقد حذرنا الله من دناءة الهمة، فقد شبه من كان ذا همة دنيئة بالكلب، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} (سورة الأعراف(176).

"فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها، منحطاً إلى أسفل رتبة، مشابها لأخس الحيوانات في الدناءة، مماثلاً له في أقبح أوصافه، وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد الإنسان له وتركه فهو لاهث، سواء زجر أو ترك، طرد أو لم يطرد، شُد عليه أو لم يشد عليه، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء". (فتح القدير (2/386).

لقد ابتليت أمتنا -في زماننا- بأدواء كثيرة، وعلل جسيمة، ومن هذه الأدواء التي أصابت هذه الأمة: داء دناءة الهمة، وضعف العزيمة، والميل إلى الدعة، وإيثار الراحة، والإخلاد إلى الأرض، والقعود عن المكارم، والرضا بالدون، وهذا ما لا يليق بالمسلم، بل الذي يليق به أن يكون ذا همة عالية، وغاية نبيلة؛ فإن ذلك من علامة كمال العقل، قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-: "من علامة كمال العقل: علو الهمة! والراضي بالدون دنيء!.
ولم أر في عيوب الناس عيباً *** كنقص القادرين على التمام

هذا الذي أصاب هذه الأمة -عباد الله-، وانتشر فيها له أسباب، ومن أهم هذه الأسباب -والله أعلم-:

الوهن "حب الدنيا وكراهية الموت"
فعن ثوبان –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء – أي ما يحمله السيل من وسخ- كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن"، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".( رواه أبو داود،وصححه الألباني).

فانظر -رحمك الله- فهل هذا الزمان إلا زماننا بعينه؟!...

وقد بين الله أن التخلف عن الجهاد في سبيل الله نوع من دناءة الهمة، وأن الذي يتخلف عنه إنما لميله إلى الراحة والدعة، يقول الله -سبحانه وتعالى- واصفاً من تخلف عن الجهاد مع رسوله-صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (سورة التوبة(42).

أي "لو كان خروجهم لطلب العرض القريب، أي منفعة دنيوية سهلة التناول {و} كان السفر {سفرا قاصدا} أي قريباً سهلاً {لاتبعوك} لعدم المشقة الكثيرة، {ولكن بعدت عليهم الشقة} أي طالت عليهم المسافة، وصعب عليهم السفر، فلذلك تثاقلوا عنك، وليس هذا من أمارات العبودية، بل العبد حقيقة هو المتعبد لربه في كل حال، القائم بالعبادة السهلة والشاقة، فهذا العبد لله على كل حال"( تيسير الكريم الرحمن للسعدي).

وجاء في الحديث تأكيد أن ترك الجهاد في سبيل الله والتخلف عن ذلك إنما هو من دناءة الهمة وخستها، والركون إلى الدنيا؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". (رواه أبو داود، وقال الألباني:صحيح لغيره).

فالجهاد يحتاج إلى رجال أقوياء أشداء؛ لأن المجاهد يحمل روحه على راحته، ولسان حاله كما يصفه الشاعر:

ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي *** والموت يرقص لي في كل منعطف
ومـــا أبـالـــي بـــه حتـى أحـــاذره ***  فخشية الموت عنـدي أبـرد الطرف.

فيأيها المسلم: إنما خلقت الدُّنيا لتجوزها لا لتحوزها، ولتعبرها لا لتعمرها، فاحذرها؛ لأنها أسحر من هاروت وماروت.

ومن أسباب دناءة الهمة وخستها وصغرها: الوقوع في الذنوب، ومخالفة علام الغيوب، كما أشار إلى ذلك العلامة ابن القيم -عليه رحمة الله- عند حديثه عن عقوبات الذنوب والمعاصي فقال: "ومن عقوباتها أنها تصغر النفس، وتقمعها وتدسيها وتحقرها حتى تصير أصغر كل شيء وأحقره؛ كما أن الطاعة تنميها وتزكيها وتكبرها، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (سورة الشمس:9-10)، والمعنى قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها، وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية الله.. فالعاصي يدس نفسه في المعصية، ويخفي مكانها، ويتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به، قد انقمع عند نفسه وانقمع عند الله، وانقمع عند الخلق، فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها وتعليها حتى تصير أشرف شيء وأكبره وأزكاه وأعلاه، ومع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله -تعالى-، وبهذا الذل حصل لها هذا العز والشرف والنمو، فما صغر النفس مثل معصية الله، وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله"( الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي).

وقال أيضاً: "فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار، فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفس المهينة الحقيرة والخسيسة بالضد من ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها، وهذا معنى قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (سورة الإسراء(84)، أي على ما يشاكله ويناسبه فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته، وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعادته التي ألفها وجبل عليها، فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي والإعراض عن النعم، والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر النعم ومحبته والثناء عليه والتودد إليه والحياء منه والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله"( الفوائد).

فمن وقع في معصية الله -تعالى- فهمته دنيئة وخسيسة؛ وإليك بعض الذنوب التي بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من وقع فيها فهو دليل على خسته وصغر همته؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده"( البخاري ومسلم). فانظر إلى خسة السارق ودناءته كيف طاوع نفسه وشيطانه حتى أقدم على السرقة فكان جزاؤه قطع يده!!.
ومن دنو الهمة وخستها: سؤال الناس في حق من كان صحيحاً معافى، ولم تنزل به جائحة؛ فعن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح" (رواه الترمذي وقال الألباني:صحيح).

ومن أسباب دناءة الهمة: التكالب على الدنيا، والتنافس في جمع حطامها
فلقد أصبح البعض عبداً للدينار والدرهم، وتناسى الآخرة التي سيصير إليها؛ يقول النبي-صلى الله عليه وسلم-: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش"( البخاري ومسلم) "فدل هذا -الحديث- على أن من أحب شيئاً وأطاعه، وكان من غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله وعادي لأجله فهو عبده"( معارج القبول2/433)، فسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة، ولا دناءة أعظم من أن يصبح الإنسان عبداً لغير الله من دينار ودرهم؛ كما يعلق على هذا الحديث القرطبي فيقول: "ولا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد".(الجامع لأحكام القرآن (18/125).

أيها الأحبة: "لقد كانت حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مليئة بألوان من تربية المسلمين على علو الهمة، فلقد كان مثالاً يُحتذى، ونهجاً يُقتفى في كرم نفسه، وشرف همته، فهو أعلى البشرية همة بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى.

له همم لا مُنتهى لكبارها *** وهمَّتُه الصُّغرى أجلُّ من الدهر

ثُمَّ إن أصحابه الكرام، الذين ورثوا عنه العلم والعمل، كان لهم القدح المُعلَّى، والنصيب الأوفى من هذا الخلق الأسمى.

فإن أتيت إلى عبادتهم وجدتهم رُهبان الليل، الذين أضناهم السهر، وأضنتهم العبادة، وإن أتيت للجهاد وجدتهم الأسود الخادرة، التي إذا غضبتْ لم يقم لغضبتها شيءٌ، وإن أتيت للحكمة وجدت ينابيعها تتفجر من على ألسنتهم، وإن أتيت للعلم وجدتهم أعمق الناس فهماً، وأصفاهم قريحة، وأقلّهم تكلفاً.

وما تحقق لهم ذلك إلا عندما زكت نفوسهم، وارتفعت هممهم، وقوي إيمانهم ويقينهم، فبارك الله في أعمارهم، وزكَّى أقوالهم وأعمالهم، فكانوا أئمة هُدى، ومصابيح دجى".

فيا عبد الله:

كن كالصحابة في زهد وفي ورع *** القوم ما لهم في الأرض أشباه
عباد ليل إذا حل الظلام بهم *** كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم *** هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً *** يشيدون لنا مجداً أضعناه

ولتكن همتك في فعل الخيرات والطاعات عالية لا تقف عند حد؛ قال المتنبي -رحمه الله-:

إذا غامرت في شرف مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيم

أسأل الله -تعالى- أن تجد هذه الكلمات قبولاً في القلوب، وأثراً في النفوس، وأن تكون سبباً لبعث الهمم من مراقدها، وإيقاظ الأمة من سباتها، وطول غفلتها.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.




- انشر الخبر -