الصــوم والنصــر تـوأمــان من بــدرٍ إلى عــين جالــوت د. يونس الأسطل


تم النشر 26 يونيه 2016


عدد المشاهدات: 1740

أضيف بواسطة : أ. مهند محمد


الصــوم والنصــر تـوأمــان من بــدرٍ إلى عــين جالــوت

 

]إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ

إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (النصر 1-3)

     لا نكاد نبرح ذكرى بدر الكبرى حتى تَحُلَّ علينا ذكرى فتح البلد الأمين، والحَرَم الآمن الذي يُجْبَى إليه ثمرات كلِّ شيءٍ رزقًا من الله، وكلتاهما كانت نصرًا عزيزًا؛ إِذِ الأُولى كانت فاتحة الانتصارات على الإخوة وأبناء العمومة ممن استحبوا الكفر على الإيمان، وهمُّوا بإخراج الرسول، وهم بدؤوكم بالقتال أول مرة، فَأَحَلُّوا قومهم دار البوار، وأخذتهم البطشة الكبرى؛ لأنك لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوَادُّون من حادَّ الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم، أو عشيرتهم، وأما الثانية فقد كانت خاتمةَ الفتوح مع أهل مكة، تلك التي كسرتْ شوكة قريش، فوضعت الحرب أوزارها معهم، وحققت للمهاجرين حقَّ العودة إلى ديارهم وأموالهم التي أُخْرِجوا منها بغير حقٍّ إلا أن يقولوا : ربنا الله؛ بل مهدت لدخول قريش في هذا الدين، ثم لدخول الناس في دين الله أفواجًا؛ ذلك أن العرب كانوا ينتظرون صراع النبيِّ عليه الصلاة والسلام مع قومه، فإن غلبوه فقد كُفُوه، وإذا ظهر عليهم دخلوا في الإسلام وافرين.

    لذلك فإن فتح مكة قد فتح باب الدخول في الإسلام على مصراعيه، ودخل العرب في دين الله أفواجًا، وكانوا من قبل يتقاطرون إليه مثنى وفرادى، وربما مثنى وثلاث ورباع، يزيد الله في الداخلين فيه ما يشاء.

    إن من محاسن القَدَر أن يحتضن شهر رمضان أوَّل الفتح وخاتمته، وهو ما يعني أن الصائمين جديرون بالعزة والتمكين، فقد غَيَّروا ما بأنفسهم، فتحرَّروا من رِقِّ الشهوة، وأَسْرِ الحياة الدنيا وزينتها، ولم يعودوا يَفِرّون من الموت، بل هو أسمى أمانيهم عندما يكون موتًا أو قتلًا في سبيل الله، حرصًا منهم على الحياة، ولكنْ في جوار الله، وفي صحبة النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا، ذلك أن تغيير الواقع الخارجي رهينٌ بتغيير النفوس وما بها من عقائد، ومفاهيم، وأفكار، ودوافع، ونوايا، إنْ خيرًا فخير، وإن شرًا فشرٌّ.

    هذا، وقد شهد شهر الصيام عددًا من المعارك الفاصلة في تاريخنا الإسلامي الجهادي، ومن ذلك أن طارق بن زياد قد تمكن من فتح الأندلس في أوائل التسعين من القرن الأول الهجري، وقد عَمَّرَ الإسلام هناك ثمانية قرون، كادت الأندلس أن تضيع قبل مضي شطر تلك القرون، لولا أن ملوك الطوائف فيها قد استنصروا في الدين إخوانهم المرابطين في المغرب العربي، فزحف الإمام القائد يوسف  بن تاشفين بنفسه، واشتبك مع الفرنجة في رمضان من عام 479هـ ، واستطاع – بفضل الله- أن يلحق بالصليبين هزيمة ساحقة في معركةٍ عُرِفَتْ باسم الزلَّاقة على أرض فرنسا، ولو أن إمام المرابطين قد واصل فتوحاته لكانت اليوم أوروبا دارًا للإسلام، ولكان القرآن يُدَرَّسُ في جامعات موسكو ولندن وبرلين وباريس، كما يقول أحد المؤرخين الألمان.

    ومن المعلوم أن فتح عَمُّوريَّة من بلاد الأتراك وقعت في رمضان كذلك من عام 223هـ؛ حيث إن المعتصم بالله ابن هارون الرشيد قد تولى الخلافة من بعد شقيقه المأمون في عام 218هـ، فانتفضت عليه بعض المدائن، فاشتغل بإخماد ذلك الفلتان الداخلي، فيما عرف يومها بثورة بابك، وقد انتهز زعماء الدولة البيزنطية النطاح الداخلي، فأغاروا على مسقط رأس المعتصم، واستباحوا مدينة زبطرة، ومَثًّلوا بأهلها، وأعملوا فيها الخراب، فلما أَخْمَدَ الفتنة الداخلية توجه تلقاء أنقرة ففتحها؛ ليمهد الطريق إلى عَمُّوريَّة، وقد تزامن ذلك مع صرخة امرأة مؤمنة، اعتدى عليها بعض علوجهم، وهي تبيع شيئًا في أحد أسواق عمورية، فاستغاثت : ( وامعتصماه)، فنقلها إليه ثقةٌ كان في السوق، فقرَّر أن ينصرها، وقد تمكن من إخضاعها، وكان الأسرى يناهزون الثلاثين ألفًا، والقتلى لا يحصون كثرة، كما أنه أباحها أربعة أيام؛ فإنَّ الحرماتِ قصاص، لذلك فإن النيران قد الْتهمتْ المزيد من عُمْرَانِها؛ حتى لا تتكرر جريمة زبطرة ثانية، وتلك المعركة كانت هي فتح الفتوح الذي تعالى أن يحيط به نَظْمٌ من الشعر، أو نَثْرٌ من الخُطَب- كما يقول أبو تمام- في قصيدته الشهيرة التي جعل السيف فيها أصدق إِنباءً من الكتب.

    ولعل معركة عين جالوت في شمال فلسطين التي صَدَدْنا فيها المغول الزاحف على الحضارة الإنسانية تُعَدُّ من أَفْصل المجابهات في التاريخ، ومن أفضلها كذلك، فقد هجم التتار على العالم الإسلامي قريبًا من عام 650هـ، فأخضع الجزيرة العربية، وفي عام 656هـ كان قد اجتاح بغداد، وأعمل السيوف في رقاب أهلها، ولم يَنْقُصِ القتلى في أربعين يومًا عن ثمانمائة، بل إن بعض المؤرخين ليرتفع بعددهم إلى مليونين، ثم زحف إلى الشام، وخدع بعض مُدُنِها بالأمان، فاستسلموا، فترك في حلبٍ وحدها خمسين ألف قتيل، ثم تطلعتْ أنظارهم إلى الهيمنة على مصر، فقررتْ دولة المماليك ألَّا تنتظر وصولهم، فزحف سيف الدين قطز، ومعه قائد جيشه الظاهر بيبرس، على رأس جيش من المماليك، والمصريين، وكبار العلماء الربانيين، كالعزِّ بن عبد السلام، وكان اللقاء في الخامس والعشرين من رمضان لعام 658هـ، وقد شهدت عين جالوت، وفي يوم الجمعة، مواجهاتٍ طاحنة، تمخضت عن انكشاف المغول، وتقهقرهم، وقد ظلَّت المطاردة تلاحقهم حتى تطهَّرت من دنسهم الشام بكاملها، وأما العراق فقد شاء الله أن يقذف الإيمان في قلوب بعض أقرباء هولاكو، وهو القائد العام، والمقربين منه، فتحولت أسيافهم إلى رقاب إخوانهم نسبًا، وإلى نصرة إخوانهم في الدين، فكفى الله المماليك الزحف إلى بغداد أو الجزيرة، إذْ إنهم ارتدَّوا على أدبارهم بمقتل هولاكو نفسه على يدي ابن أخيه، أو أحد ذويه، ممن أسلم، وحَسُن إسلامه.

    ولا يتسع المقام لملاحقة كلِّ أيام الله التي أكرمنا بها في رمضان، حتى أتمكن من التعريج على تأويل السورة المدونة في هامة المقال.

    إنها تنطوي على الإعجاز بالإخبار بالغيب المبشِّر بمجيء نصر الله على بني العمومة والقبيلة، ذلك النصر الكبير الذي يصاحبه فتح مكة، وهيمنة الجيش الإسلامي عليها، بحيث ينتهي الخطر القرشي الذي تحدى في بدرٍ، وأُحُدٍ، والخندق، والحديبية، وغيرها ، خاصةً وأن الناس سيد خلون بعده في دين الله أفواجًا، فإذا الذي بيننا وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم.

    وإذا علت راية الإسلام في الجزيرة، وتطهرت من الشرك والوثنية؛ فقد تمَّتْ الرسالة، وآن لك أن تستريح في مقعد صدقٍ عن مليكٍ مقتدر، فاجتهدْ فيما تبقى من الأجل في التسبيح بحمد ربك، وفي نافلة الصلاة من آناء الليل وأطراف النهار؛ لعلك ترضى، وأضفْ إلى ذلك تكثيف الاستغفار؛ فإن الله كان توابًا على من يسبح بحمده ويستغفره.

    وعلى الرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو معصوم ابتداءً من الكبائر، حتى قبل النبوة، ومن الصغائر الدالة على الخسة ونقصان المروءة كذلك؛ إلا أنه كان يستغفر في اليوم قريبًا من مائة مرة، بل كانوا يَعُدُّونَ له في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة أن يقول : " ربِّ اغفرْ لي، وتُبْ عليَّ؛ إنك أنت التوابُ الرحيم."، والمطلوب اليوم أن يزداد من التسبيح والتحميد والاستغفار، فقد ضاقت فسحة الأمل، وقد نَعَتْ إليه هذه السورة أجله.

    إن الصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، هم الأجدر بالنصر والتمكين، فقد غَيَّروا ما بأنفسهم، وانتصروا على أهوائهم وشهواتهم، فتحرَّروا من الوَهْنِ والضعف والاستكانة، وتطلعوا إلى المغفرة والجنة، فكانوا حقيقين بالعلاوة، وهي نَصْرٌ من الله، وفتحٌ قريب، وبَشِّر المؤمنين.

 

اللهم نصرك الذي وعدتنا، والفتح المبين

                                                                                                                                                                                                                                                            




- انشر الخبر -